يخضع المشرق منذ النهضة العربية الثانية الجهيضة إلى إعادة تشكيل مزمنة ، يتحكم بها القلق المياوم جراء خلخلة الجغرافيا وانزياحات الديمغرافيا وتهافت الاقتصاد وسرقته، وبالطبع اللااستقرار السياسي في أنظمته الموروثة مما قبل الحداثة.
إن معيقات الاندفاع النهضوي التنويري قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها كثيرة، لكن أهمها أن البنية الاجتماعية الطالعة من ظلام أربعة قرون عثمانية لم تكن حمّالة مشروع نهضوي، وأن العالم الجديد الذي تشكّل لم يكن مسروراً بالتنوير، لا بل انفرد باستعمار المشرق لعقود ، ووأد ظاهرة محاولة العبور إلى الحداثة، وأكملت الأنظمة التي فرّخت بعده على الهاجس التنويري تأبيداً لإمساكها بالسلطة.
حروب متواصلة في المشرق مع الكيان الإسرائيلي المزروع ، وحروب بينية بين دول المشرق نفسه، في السياسة والاقتصاد وعلى الأرض، وصولاً إلى حرب تفتيت المجتمعات في لبنان والعراق وسورية. فيما يسمّى زوراً ” الربيع العربي” وأخيراً حرب الدمار الشاملة على غزة.
في ظل هذا اللون القاتم المهتز ، انكفأت النخب وتجمّد الفكر ، والتحق أغلب المثقفين بالسلطات ، وباتوا موظفين بأجرٍ معلن أو مستتر عند أصحاب النفوذ أو الدول الخليجية الغنية، وغابت الجمعيات والأحزاب التغييرية، وهرمت وتشرنقت وباتت شعارتها مدعاة لابتسامات التشفي،وتقدمت قوى الإسلام السياسي لتحتل الواجهة ، فيما ما تزال القوى المسيحية في لبنان مثلاً تجتّر مقولاتها بشكل ببغائي، وفي الوقت الذي يترك المسيحيون المشرق نهب مستقبل غير واضح المعالم.
نورد كل هذا كي نقول: إن الحالة الفكرية في المشرق لا تسرّ الخاطر، وهي مجرد ارتعاشات واستفاقات عابرة ، لكن قناعتنا بأنه لا خلاص إلاً بالفكر والثقافة والتنوير جعلنا نقصد الطريق الصعب ، ونبدأ من التاريخ والديمغرافيا والدين والاقتصاد والانتروبولوجيا والاجتماع ، كي نؤسس مع أصحاب الفكر الذين يعملون فرادى ، مصطبة معرفية معاصرة، إن لم تثمر وعياً حركياً، فعلى الأقل تكون محفزة لحركة وعي ناجم عن النتاج المعرفي الحقيقي المرتكز على البحث الأكاديمي.
هذا هو المرتجى وطريق العبور الصعب إلى مستقبل يذهب بالعالم إلى آفاق نلهث كي نتلمسها ونحن متحلّقون حول موقدة الماضي..المطفأة.